لم أكن تجاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أول أبنائي ..
ما زلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشـله في إحدى الاستراحات .. كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ .. بل بالغيبة والتعليقات المحرمة .. كنت أنا الذي اتولى في الغالب إضحاكهم وغيبة الناس ..! وهم يضحكون
أذكر ليلتها أني أضحكتهم كثيرا .. كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد .. بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه ..
أجل كنت أسخر من هذا وذاك ولم يسـلم أحد مني حتى أصحابي .. صار بعض الناس يتجنبني كي يسلم من لساني ! أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسول
في السوق ..
والأدهى أني وضعت قدمي أمامه فتعثر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول ..
وانطلقت ضحكتي تدوي في السوق ..
عدت إلى بيتي متأخرا كالعادة ..
وجدت زوجتي في انتظاري وكانت في حالة يرثى لها ..
قالت بصوت متهدج: راشد أين كنت ..؟
قلت ساخرا : في المريخ.. عند أصحابي بالطبع ..
كان الإعياء باديا عليها ..
قالت والعبرة تخنقها: راشد أنا تعبة جدا .. الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا .. سقطت دمعة صامتـة على خدها ..
أحسست أني أهملت زوجتي .. كان المفروض أن أهتم بها وأقلل من سهراتي خاصة أنها في شهرها التاسع من حملها.
حملتها إلى المستشفى بسرعة وأدخلت غرفة الولادة.. جعلت تقاسي الآلام سـاعات طوال .. كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر ..
تعسرت ولادتها فانتظرت طويلا حتى تعبت ..
ذهبت إلى البيت وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني بعد ساعة ..
اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم ،
ذهبت إلى المستشفى فورا ..
أول ما رأوني أسأل عن غرفتها طلبوا مني مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي ..
صرخت بهم: أي طبيبة ..؟
المهم أن أرى ابني سـالم ..!
قالوا أولا راجع الطبيبة ..
دخلت على الطبيبة فبدأت تكلمني عن المصائب والرضى بالأقدار ..
ثم قالت: ولدك به تشوه شديد في عينيه ويبدو أنه فاقد البصر.
خفضت رأسي وأنا أدافع عبراتي ..
تذكرت ذاك المتسول الأعمى الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس ..
سبحان الله كما تدين تدان..!
بقيت واجما قليلا لا أدري ماذا أقول ..
ثم تذكرت زوجتي وولدي فشـكرت الطبيبة على لطفها ومضيت لأرى زوجتي ..
لم تحزن زوجتي وكانت مؤمنة بقضاء الله وقدره وراضية بما أعطاها الله..
ولطالما نصحتني بأن أكف عن الاستهزاء بالناس .. كانت تردد دائما لا تغتب الناس ..
خرجنا من المستشفى وخرج سالم معنا. في الحقيقة لم أكن أهتم به كثيرا ..
اعتبرته غير موجود في المنزل .. حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها..
كانت زوجتي تهتم به كثيرا وتحبه كثيرا، أما أنا فلم أكن أكرهه لكني لم أستطع أن أحبه ..!
كبر سالم .. بدأ يحبـو وكانت حبوته غريبة.. قارب عمره السنة وبدأ يحاول المشـي .. فاكتشفنا أنه أعرج .. أصبح ثقيلا على نفسي أكثر ..
أنجبت زوجتي بعده عمر وخالدا. مرت السنوات وكبر سالم وكبر أخواه ..
كنت لا أحب الجلوس في البيت. دائما مع أصحابي ..
في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ..
لم تيأس زوجتي من إصلاحي. كانت تدعوا لي دائما بالهداية .. لم تغضب من تصرفاتي الطائشـة، لكنها كانت تحزن كثيرا إذا رأت إهمالي لسـالم واهتمامي بباقي إخوته. كبر سـالم وكبر معه همي..
لم أمانع حينما طلبت مني زوجتي أن أسجله في إحدى المدارس الخاصة بالمعاقين ..
لم أكن أحس بمرور السنوات. أيامي سواء ..
عمل ونوم وطعام وسـهر. في يوم جمعة استيقظت من النوم الساعة الحادية عشر، ما يزال الوقت مبكرا بالنسبة لي ..
كنت مدعوا إلى وليمة .
لبست وتعطرت وهممت بالخروج ..
مررت بصالة المنزل فاستوقفني منظر سـالم.
كان يبكي بحرقة،
إنها المرة الأولى التي انتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلا،
عشر سنوات مضت لم ألتفت إليه .. حاولت أن أتجاهله فلم احتمل. كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة، التفت ثم اقتربت منه .. قلت: سـالم لماذا تبكي ..؟ حين سمع صوتي توقف عن البكاء .
فلما شعر بقربي بدأ يتحسس ما حوله بيديه الصغيرتين. ما به يا ترى ..؟
اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني .! وكأنه يقول:
الآن أحسست بي. أين أنت منذ عشر سنوات ..؟
كان يبتعد عني وأنا أتبعه حتى دخل غرفته ..
رفض أن يخبرني في البداية عن سبب بكائه ..
حاولت التلطف معه ..
بدأ سالم يبين سبب بكائه،
وأنا استمع إليه وأنتفض،
أتدري ما السـبب ..!
تأخر عليه أخوه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد.
ولأنها صلاة جمعة خاف أن لا يجد له مكانا في الصف الأول. نادى عمر.. ونادى والدته ولكن لا مجيب ..
فبكى. أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين..
لم أستطع تحمل بقية كلامه.
وضعت يدي على فمه وقلت لذلك بكيت يا سالم..!
قال نعم ..
نسيت أصحابي ونسيت الوليمه.
وقلت سالم لا تحزن.. هل تعلم من سيذهب اليوم بك إلى المسجد..؟
قال أكيد عمر لكنه يتأخر دائما ..
قلت: لا..!
بل أنا سأذهب بك.
دهش سـالم..
لم يصدق وظن أني أسخر منه.
استعبر ثم بكى. مسحت دموعه بيدي وأمسكت يده. أردت أن أوصله بالسيارة.
رفض قائلا:
المسجد قريب. أريد أن أخطو إلى المسجد - أي والله قال ذلك - لا أذكر متى كانت آخر مرة دخلت فيها المسجد..
لكنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم على ما فرّطته طوال السنوات الماضية.
كان المسجد مليئا بالمصلين،
إلا أني وجدت لسالم مكانا في الصف الأول،
استمعنا لخطبة الجمعة معا..وصلى بجانبي ..
بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه.. بعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفا.
استغربت ..!! كيف سيقرأ وهو أعمى؟
كدت أتجاهل طلبه.
لكني جاملته خوفا من جرح مشاعره.
ناولته المصحف.. طلب مني أن أفتح المصحف على سورة الكهف.
أخذت أقلب الصفحات تارة وأنظر في الفهرس تارة حتى وجدتها..
أخذ مني المصحف ثم وضعه أمامه وبدأ في قراءة السـورة وعيناه مغمضتان..
يا الله !!ذ
إنه يحفظ سورة الكهف كاملة..
خجلت من نفسي فأمسكت مصحفا..
وأحسست برعشة في أوصالي..قرأت وقرأت.
دعوت الله أن يغفر لي ويهديني..لم أستطع الاحتمال فبدأت أبكي كالأطفال.
كان بعض الناس لا يزال في المسجد يصلي السنة.
خجلت منهم فحاولت أن أكتم بكائي..
تحول البكاء إلى نشيج وشـهيق.
لم أشعر إلا بيد صغيرة تتلمس وجهي ثم تمسح عني دموعي..
إنه سـالم!!
ضممته إلى صدري .
. نظرت إليه.
قلت في نفسي..
لست أنت الأعمى بل أنا الأعمى حين انسقت وراء فسّاق يجرونني إلى النار.
عدنا إلى المنزل..
كانت زوجتي قلقة كثيرا على سالم،
لكن قلقها تحول إلى دموع حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم..
من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد.
هجرت رفقاء السوء وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد.
ذقت طعم الإيمان معهم. عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا. لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر. ختمت القرآن عدة مرات في شهر. رطّبت لساني بالذكر لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس.
أحسست أني أكثر قربا من أسرتي. اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي. الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم. من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها. حمدت الله كثيرا على نعمه..
ذات يوم ..
قرر أصحابي الصالحون أن يتوجهوا إلى إحدى المناطق البعيدة للدعوة.
ترددت في الذهاب. استخرت الله واستشرت زوجتي.
توقعت أنها سترفض.. لكن حدث العكس!
فرحت كثيرا، بل شجعتني. فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون استشارتها فسقا وفجورا.
توجهت إلى سالم أخبرته أني مسافر فضمني بذراعيه الصغيرين مودعا..
تغيبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف،
كنت خلال تلك الفترة أتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدث أبنائي..
اشتقت إليهم كثيرا .. آآآه كم اشتقت إلى سـالم..!!
تمنيت سـماع صوته.. هو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت. إما أن يكون في المدرسة أوالمسجد ساعة اتصالي بهم.. كلما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه كانت تضحك فرحا وبشرا،
إلا آخر مرة هاتفتها فيها.
لم أسمع ضحكتها المتوقعة.
تغير صوتها.. قلت لهـا: أبلغي سلامي لسالم،
فقالت: إن شاء الله... وسكتت..
أخيرا عدت إلى المنزل.
طرقت الباب. تمنيت أن يفتح لي سالم،
لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره.
حملته بين ذراعي وهو يصرخ:
بابا .. بابا..
لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت..
استعذت بالله من الشيطان الرجيم..
أقبلت إلي زوجتي .. كان وجهها متغيرا
. كأنها تتصنع الفرح. تأملتها جيدا ثم سألتها:
ما بك.؟ أجابت لا شيء.
فجأة تذكرت سالما فقلت: أين سالم.؟
خفضت رأسها.
لم تجب. سقطت دمعات حارة على خديها.
. صرخت بها: سـالم.! أين سـالم..؟
لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد يقول بلغته: بابا .. ثالم لاح الجنه.. عند الله...
لم تتحمل زوجتي الموقف. أجهشت بالبكاء.
كادت أن تسقط على الأرض، فخرجت من الغرفة.
عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين فأخذته زوجتي إلى المستشفى .. فاشتدت عليه الحمى ولم تفارقه.. حين فارقت روحه جسده
إذا ضاقت عليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك بما حملت .. فاهتف .. يا الله
إذا بارت الحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، نادي .. يا الله
لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيــم
تحياتي لكم
قمراي